عندئذ تدخلت ناديا داعية الجميع إلى الطعام :
هيا ، كلوا ، وإلا ستبرد البطاطس . فهى ليست لذيذة عندما تبرد . لقد أثنيتم على الفطر ولم تتذوقوه . كلوا كل ما أمامكم ، فلن نأكل حتى الغداء .
ستصل تاتيانا ، وسنتجمَّع .
ستلحق موعد الغداء ، آى نعم .
إذا كانت الآن فى المنطقة فلربما تصل قبل الغداء .
تشكَّت فارفارا مسبقا وقالت :
أخشى أن تكون قد قضت ليلتها فى فندق أو عند غرباء ومنعها تكبرها من المجئ إلينا .
رد ميخائيل :
لا ، من الضرورى أن تأتى . تاتيانا بسيطة .
تمسكت فارفارا برأيها فى إصرار قائلة :
كانت بسيطة ، ولكن سنرى كيف أصبحت الآن . فقد مر زمن طويل على غيابها عن البيت .
هى أبعد الجميع ويلزمها وقت أطول ، فليس من السهل السفر من هناك .
ومن قال لها أن تبتعد هكذا ؟ إذا كان ولابد لها من رجل عسكرى ، فهم الآن فى كل مكان . كان بإمكانها أن تختار واحد أقرب . هى الآن مثل اليتامى ، لقد تصرفت بدون عقل .
هزت لوسيا رأسها فى عجز وحيرة :
من الأفضل ألا نناقش أختنا فارفارا . هى دائما على حق .
أنتم لا تحبون سماع الحقيقة .
قالت لوسيا :
أترون ؟ ثم أضافت وهى تنهض من خلف المائدة موجهة الشكر إلى ناديا :
شكرا يا ناديا . كان الإفطار شهيا .
لم تأكلى إلا قليلا ، ليس هناك ما يستحق الشكر .
لا ، هذا كاف لى . معدتى لم تعد معتادة على مثل هذا الطعام . أخشى أن أثقل عليها .
قالت فارفارا فى نبرة تصالح :
الفطر لا يسبب إسهالا ولا يضر بالمعدة . أعرف ذلك عن تجربة . أولادى لم يتأذوا منه أبدا . لم تفهم فارفارا لماذا تنهدت لوسيا وانصرفت ، فسألت أخويها : ماذا بها ؟
من يعرف .
لم يعد الكلام ممكنا .
نصحها إيليا ضاحكا :
تكلمى معها بلغة أهل المدينة ، بلغة المثقفين ، وليس كذلك .
لا أعرف لغة أهل المدينة . لم أزر المدينة فى حياتى كلها إلا مرة واحدة . أما هى فأصلها من القرية وبإمكانها أن تتكلم معى بلغة أهل القرية .
لعلها نسيت .
إذا كانت قد نسيت ، فأنا لم أتعلم والآن علينا ألا ننطق ولو حتى كلمة واحدة ؟
بعد تناول الإفطار جلس إيليا وميخائيل على سلم المدخل يدخنان . صار النهار صحوا ، وارتفع الضباب والسماء إلى أعلى فأعلى ، لم يعد نظر الإنسان يتسع لكل ذلك المدى السماوى الملون ، فصار يخشى هذا العمق الجميل ويبحث عن شئ آخر أقرب ، عن شئ يمكن أن يركن إليه ويرتاح . أما الغابة التى كانت تداعبها الشمس فزهت بالخضرة وصارت أكثر اتساعا ورحابة . كانت تحيط بالقرية من ثلاث جهات ، أما الرابعة فقد تركتها للنهر . وفى الفناء كان الدجاج يصيح على مرأى من الرجلين ويضرب بأجنحته فى بساطة ورغبة . وأخذت الكتاكيت تصوصو . وبسبب الدفء والرضى راح الخنزير المخصى يزعق وهو منطرح يتمرغ بجوار السور المائل .
خرجت نينكا . انبهرت عيناها ، بعد النوم ، بضوء الشمس فغطتهما براحتى يديها وضيقتهما قليلا . بعد ذلك ، حينما اعتادت عيناها الضوء ، انسلت إلى كومة الأخشاب وجلست عليها . شاكستها دجاجة محاولة المرور من خلفها . أخذت نينكا تهش عليها ، وبدون قصد دارت وانزلقت خلف كومة الأخشاب بمؤخرتها العرية . صاح ميخائيل :
نينكا ، سأقرص لك أنفك مثل القطة . كم مرة يجب أن نقول لك ابتعدى من هنا !
اختبأت نينكا وقالت متعللة فى غضب :
الدجاج يأكل .
سوف أريك كيف يأكل الدجاج !
هدأت القرية بعد الترتيبات الصباحية : ذهب إلى العمل من كان مضرا إلى ذلك ، وانشغلت ربات البيوت الآن بعد الانتهاء من أمور الماشية بالشؤون المنزلية الهادئة غير المسموعة ، ولم يخرج بعد الصبية إلى الشارع ساد الهدوء ، ولم تكن تسمع سوى أصوات متناثرة معتادة : صياح حيوان أو صرير بوابة أو صوت إنسان يصدر بالصدفة من مكان ما لم كل ذلك للاستماع أو الرد ، بل لكى لا يحيط الفراغ والموت بالأحياء . وسيطر الهدوء ، الذى ساد فى الوقت الفاصل بين الصباح وموعد الغداء ، على الضجيج والحركة ، وتوافق الدفء الصافى المنير المنبعث من السماء المكشوفة . وراح ذلك الهدوء يسمو بالقرية دون أى صوت مزيلا عنها برودة الليل .
قال ميخائيل مأخوذا بالهدوء الساحر الرقيق :
يبدو أن أمنا كانت طيبة . تأمَّل أى يوم جاء من أجلها . مثل هذا النهار لا يمنح هكذا لمن هب ودب . رد إيليا :
لقد استقر الطقس . آى نعم .
ولكن علينا أن نرتب أمورنا ونشترى من " البيضاء " إياها طالما مازالت موجودة بالمحل . ، لأنه إذا وزعوا الأجور إذا فسوف تنفد عن آخرها ، وسنضطر للبحث عنها .
أ تقصد الفودكا ؟
طبعا . البيضاء . أما النبيذ الأحمر فلا أحترمه . وجوده أو عدمه سيان بالنسبة لى . هذا الوباء يسبب صداعا فظيعا فى الصباح ، ويترك الإنسان طوال النهار كالمصاب بالطاعون .
شعر ميخائيل بتشنج داخلى لدى الحديث عن الخمر .
فى كل الأحوال علينا شراء نبيذ للنساء .
سنشترى قليلا منه ، وهذا كاف . لِمَ الإكثار ؟ حتى النساء الآن لا يشربن منه كثيرا . إنهن يفضلن مشروبنا .
المساواة مطلوبة فى كل شئ ؟
طبعا .
ابتسما فى خبث حيث فهم كل منهما الآخر ، ولكن لم يكن لديهما متسع من الوقت لفتح حديث مسل عن المساواة ، فسكتا . قال إيليا :
كم زجاجة سنشترى ؟
هز ميخائيل كتفيه :
لا أدرى . ولكن ليس أقل من صندوق . سيجتمع نصف أهالى القرية ولا يجب أن نفضح أنفسنا ، فأمنا على أية حال لم تكن بخيلة .
لنأخذ صندوقا ، آى نعم .
وهل معك أية نقود ؟
خمسون روبلا .
وأنا سآخذ من ناديا . هذا يكفى .
وهل سنأخذ من أختينا ؟
ليس مع فارفارا شئ يمكن أخذه . أما لوسيا فسنسألها ، فهى على الأغلب تملك كثيرا من النقود لنأخذ منها ، فهى أيضا من لحمها ودمها وليست ابنة بالتبنى ، كيف يمكن تجاهلها ؟ ربما تغضب .
لم الانتظار إذن ؟ سأعثر على ناديا الآن ، ونذهب . يجب أن نشترى اليوم ، وإلا فلن يبقى لها أثر إذا وزعوا الأجور غدا . أنا أعرف الوضع عندنا : إذا تمهلت قليلا فاتتك الفرصة وستضطر لشرب الماء . كنا نستطيع الاستغناء عنها فى ظروف أخرى ، ولكن بما أن حالنا هكذا فلا داع للفضيحة . يجب أن نودع أمنا كما ينبغى فهى لم تسئ إلينا أبدا . نهض ميخائيل قبل إيليا ، وراح يتابع حديثه لنفعل كالآتى : سأذهب إلى زوجتى ، فمن الضرورى أن يكون قد تبقى لدينا بعض النقود ، أما أنت فاذهب إلى أختينا فليس من اللائق أن أطلب أنا منهما لأننى صاحب البيت . وبعدها إلى المحل . من الرائع أننا تنبهنا إلى هذا الأمر يجب أن نشترى الآن ، لن ننتظر أكثر .
خرجا مسرعين . كانا مضطربين لأنهما سيأخذان كمية كبيرة من الشراب ، كمية كبيرة لا يستطيع حملها شخص بمفرده ، ويسيران بها فى الشارع . لم يكن المحل بعيدا . وكان خاليا من الناس كعادته قبل أيام استلام الأجور . لم يطل بهما الوقت هناك . عادا يحملان صندوقا يجلجل بزجاجاته ووضعاه فى عنبر المؤونة .
قال ميخائيل :
عندما تكون مكانها لا يوجد أى سبب للقلق . لتبق ، فلن يصيبها شئ هنا . أما البورتفين فيمكن شراؤه فى أى وقت ، فلا يوجد عيه طلبا كثيرا .
فجأة تردد من داخل البيت صراخ نينكا . فتح ميخائيل الباب وهو ينوى نهرها . زلكنه رأى النساء الثلاث قد أحطن بها ، فأرهف السمع .
هى بنفسها قالت نينكا فى صوت ممطوط .
ماذا نفسها ؟ ماذا هزت لوسيا الفتاة .
لست أنا . هى نفسها …
ماذا فعلت هى ؟ تكلمى ، أ لم تتعلمى الكلام ؟
هى ، فتحت عينيها ورأتنى …
وماذا أيضا ؟
رأتنى قلدتها ناديا ولماذا رأتك ؟ عما كنتِ تبحثين فى حقيبتها ؟ من سمح لكِ ؟ ماذا كنتِ تريدين منها ؟
صرخت نينكا :
هى التى أشارت لى أن أفعل . أنتِ لم ترى فلا تقولى شيئا .
سأريك كيف تتحدثين إلى أمك . ما هذه الموضة ؟ ممن تعلمتِ ذلك ؟
انتظرى يا ناديا أسكتتها لوسيا ، وانحنت ثانية نحو نينكا إلامَ أشارت ؟
إلامَ … إلامَ … إلى ما تحت السرير .
قالت ناديا موضحة :
العجوز تحتفظ لها بكراميللا فى الحقيبة .
تابعت لوسيا أسئلتها :
وكيف أشارت لكِ ؟ كيف حدث ذلك ؟ هه !
نظرتُ إليها ولكنها لم تتطلع إلىَّ ، بعدها فتحتْ عينيها ونظرت إلىَّ ، ثم أشارت .
أ لم تقل لكِ شيئا ؟
لم تقل .
تنهدت فارفارا فى أسى :
أوه … أوه … ماذا سيحدث ؟
هنا تدخل ميخائيل مدافعا عن نينكا :
هى ليست خبيثة ، لم ألحظ عليها ذلك أبدا . ربما اعترت أمنا صحوة الموت وكانت نينكا قربها فى تلك اللحظة .
يتـــــــــــــــبع